الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والرؤية على التقديرين علمية وليست بصرية لأن إهلاك القرون لم يكن مشهودًا لأمة جاءت بعد الأمة التي أهلكت قبلها.وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود {كم} لأن {كم} لها صدر الكلام سواء كانت استفهامًا أم خبرًا، فإن {كم} الخبرية منقولة من الاستفهامية وما له صدر الكلام لا يعمل ما قبله فيما بعده.و{كم} في موضع نصب ب {أَهْلَكْنَا} ومفادها كثرة مبهمة فسّرت بقوله: {مِنَ القُرُونِ} ووقعت {كم} في موضع المفعول لقوله: {أَهْلَكنا}.و{قَبْلَهُم} ظرف ل {أهْلَكْنَا} ومعنى {قَبْلَهُم} قبل وجودهم.وقوله: {أنَّهُم إليهم لا يَرْجِعون} بدل اشتمال من جملة {أهلكنا} لأن الإِهلاك يشتمل على عدم الرجوع؛ أبدل المصدر المنسبك من أن وما بعدها من معنى جملة {كم أهلكنا قبلهم من القرون} لأن معنى تلك الجملة كثرة الإِهلاك أو كثرة المهلكين.وفعل الرؤية عامل في {أنَّهم إليهِم لا يَرْجِعُونَ} بالتبعية لتسلط معنى الفعل على جملة {كَمْ أهْلَكْنَا} لأن التعليق يبطل العمل في اللفظ لا في المحل.وفائدة هذا البدل تقرير تصوير الإِهلاك لزيادة التخويف، ولاستحضار تلك الصورة في الإِهلاك أي إهلاكًا لا طماعية معه لرجوع إلى الدنيا، فإن ما يشتمل عليه الإِهلاك من عدم الرجوع إلى الأهل والأحباب مما يزيد الحسرة اتضاحًا.و{إلَيْهِم} متعلق ب {يَرجِعون} وتقديمه على متعلقه للرعاية على الفاصلة.وضمير {إليهم} عائد إلى {العِبَادِ} [يس: 30]، وضمير {أنَّهُمْ} عائد إلى {القُرُونِ}.{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} أرى أن عطفه على جملة {أنهم إليهم لا يرجعون} [يس: 31] واقعٌ موقع الاحتراس من توهم المخاطبين بالقرآن أن قوله: {أنهم إليهم لا يرجعون} مؤيد اعتقادهم انتفاء البعث.و{إِنْ} يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة والأفصح إهمالها عن العمل فيما بعدها، والأكثر أن يقترن خبر الاسم بعدها بلام تسمّى اللام الفارقة لأنها تفرق بين {إِنْ} المخففة من الثقيلة وبين {إِنْ} النافية لئلا يلتبس الخبر المؤكد بالخبر المنفي فيناقض مقصد المتكلم، وعلى هذا الوجه يكون قوله: {لَما} مخفف الميم كما قرأ الجمهور {لَمَا جَمِيعٌ} بتخفيف ميم {لَمَّا} فهي مركبة من اللام الفارقة و ما الزائدة للتأكيد، ويجوز أن تكون {إنْ} نافية بمعنى لا ويكون {لَمَّا} بتشديد الميم على أنها حرف استثناء بمعنى إلا تقع بعد النفي ونحوه كالقسم.وكذلك قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر.والتقدير: وما كلهم إلا مُحْضَرُون لدينا.و{كُلٌّ} مبتدأ وتنوينه تنوين العوض عما أضيف إليه {كل} أي كل القرون، أو كل المذكورين من القرون والمخاطبين.و{جَمِيعٌ} اسم على وزن فعيل، أي مجموع، وهو ضد المتفرق.يقال: جمع أشياءَ كَذا، إذا جعلها متقاربة متصلة بعد أن كانت مشتتة ومتباعدة.والمعنى: أن كل القرون محضرون لدينا مجتمعين، أي ليس إحضارهم في أوقات مختلفة ولا في أمكنة متعددة؛ فكلمة {كل} أفادت أن الإِحضار محيط بهم بحيث لا ينفلت فريق منهم، وكلمة {جميع} أفادت أنهم محضرون مجتمعين فليست إحدى الكلمتين بمغنية عن ذكر الأخرى، ألا ترى أنه لو قيل: وإن أكثرهم لما جميع لدينا محضرون، لما كان تناف بين أكثرهم وبين جميعهم أي أكثرهم يحضر مجتمعين؛ فارتفع {جَمِيعٌ} على الخبرية في قراءات تخفيف {لمَا} وعلى الاستثناء على قراءات تشديد {لمَّا}.و{مُحْضَرُونَ} نعت ل {جَمِيعٌ} على القراءتين.وروعي في النعت معنى المنعوت فألحقت به علامة الجماعة، كقول لبيد:
والإِحضار: الإِحضار للحساب والجزاء والعقاب. اهـ.
ولما ذكر سبحانه ما في الزروع وما لا ساق له من النعمة والقدرة، ودل السياق فيه على الحصر، أتبعه ما بين المراد التعظيم لا الحصر الحقيقي بإظهار المنة في غيره من الأشجار الكبار والصغار ذات الأقوات والفواكه، فقال دالًا على عظمه بمظهر العظمة: {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة {فيها} أي الأرض {جنات} أي بساتين تستر داخلها بما فيها من الأشجار الملتفة.ولما كان النخل- مع ما فيه من النفع- زينة دائمًا بكونه لا يسقط ورقه، قدمه وسماه باسمه فقال: {من نخيل} وفيه أيضًا إشارة إلى أنه نفع كله خشبه وليفه وشعبه وخوصه وعراجينه وثمره طلعًا وجمارًا وبسرًا ورطبًا وتمرًا، ولذلك- والله أعلم- أتى فيه بصيغة جمع الكثرة كالعيون، ولما كان الكرم لا تكون له زينة بأوراق تجن إلا ما كان العنب قائمًا قال: {وأعناب} ودل بالجمع فيهما دون الحب على كثرة اختلاف الأصناف في النوع الواحد الموجب للتفاوت الظاهر في القدر والطعم وغير ذلك.ولما كانت الجنات لا تصلح إلا بالماء، وكان من طبع الماء الغور في التراب والرسوب بشدة السريان إلى أسفل، فكان فورانه إلى جهة العلو أمرًا باهرًا للعقل لا يكون إلا بقسر قاسر حكيم قال: {وفجرنا} أي فتحنا تفتيحًا عظيمًا {فيها} ودل على تناهي عظمته وتعاليها عن أن يحاط بشيء منها بالتبعيض بقوله: {من العيون} والتعريف هنا يدل على أن الأرض مركبة على الماء، فكل موضع منها صالح لأن ينفجر منه الماء، ولكن الله يمنعه عن بعض المواضع بخلاف الأشجار ليس منها شيء غالبًا على الأرض، ففي ذلك تذكير بالنعمة في حبس الماء عن بعض الأرض لتكون موضعًا للسكن، ولو شاء لفجر الأرض عيونًا كما فعل بقوم نوح عليه السلام فأغرق الأرض كلها.ولما كانت حياة كل شيء إنما هي بالماء، أشار إلى ذلك بقوله: {ليأكلوا من} وأشارت قراءة حمزة والكسائي بصيغة الجمع مع إفراد الضمير إلى أن الشجرة الواحدة تجمع بالتطعيم أصنافًا من الثمر {ثمره} أي من ثمر ما تقدم، ولولا الماء لما طلع، ولولا أنه بكثرة لما أثمر بعد الطلوع.ولما كان الإنسان قد يتسبب في تربية بعض الأشياء، أبطل سبحانه الأسباب فيما يمكن أن يدعو فيه تسببًا، ونبه على أن الكل بخلقه فقال: {وما عملته} أي ولم تعمل شيئًا من ذلك {أيديهم} أي عملًا ضعيفًا- بما أشار إليه تأنيث الفعل فكيف بما فوقه وإن تظافروا على ذلك بما أشار إليه جمع اليد.ولما كان السياق ظاهرًا في هذا جاءت قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بحذف الضمير غير منوي قصرًا للفعل تعميمًا للمفعول ردًا لجميع الأمور إلى بارئها سواء كانت بسبب أو بغير سبب، أي ولم يكن لأيديهم عمل لشيء من الأشياء لا لهذا ولا لغيره مما له مدخل في عيشهم ومن غيره، ولذلك حسن كل الحسن إنكاره عليهم عدم الشكر بقوله: {أفلا يشكرون} أي يدأبون دائمًا في إيقاع الشكر والدوام على تجديده في كل حين بسبب هذه النعم الكبار.ولما كان السياق لإثبات الوحدانية والإعلام بأن ما عبد من دونه لا استحقاق له في ذلك بوجه، ولا نفع بيده ولا ضر، وأنتج هذا السياق بما دل عليه من تفرده بكل كمال وأنه لا أمر لأحد معه بوجه من الوجوه- تنزهه عما ادعوه من الشرك غاية التنزه، قال لافتًا للكلام عن مظهر العظمة لأن إثباتها بالرحمة الدال عليها أدخل في التعظيم: {سبحان الذي} ووصفه بما أكد ما مضى من إسناد الأمور كلها إليه ونفى كل شيء منها عمن سواه فقال: {خلق الأزواج} أي الأنواع المتشاكلة المتباينة في الأوصاف وفي الطعوم والأرابيح والأشكال والهيئات والطبائع وغير ذلك من أمور لا يحصيها إلا الله تدل أعظم دلالة على كمال القدرة وعظيم الحكمة والاختيار في الإرادة، وأكد بقوله: {كلها} لإفادة التعميم؛ ثم زاد الأمر تصريحًا بالبيان بقوله: {مما تنبت الأرض} فدخل فيه من كل نجم وشجر ومعدن وغيره من كل ما يتولد منها، وأشار- لكونه في سياق تكذيبهم- إلى تأديبهم بتحقيرهم بجمع القلة والتعبير بالنفس التي تطلق في الغالب على ما يذم به فقال: {ومن أنفسهم} وبين أن وراء ذلك أمورًا لا يعلمها إلا هو سبحانه فقال: {ومما لا يعلمون} أي ومما لا يحتاجون إليه في دينهم ولا دنياهم، ولا توقف لشيء من إصلاح المعاش والمعاد عليه، ولو كان ذلك لأعلم به كما أعلم بأحوال الآخرة وغيرها مما لم نكن نعلمه. اهـ.
|